Monday, April 30, 2007

من يوميات معلم في مدرسة لاجئين!

لهفة وذهن متيقظ و تحفز متواصل بانتظار ذلك الرنين المحبب ... هياج وركض وتعثر واختراق لكل القوانين المدرسية لمعمول بها ... ومن هذا الذي يستطيع التحكم بهذا الجوع الكافر ؟!
اسوار تزينها ثقوب بحجم الاصابع المزرقة بسبب برد لم يات كالمعتاد ... يتمدد الرغيف في الحلم الصغير ... يتجاوز مدى اللذة القصوى ... الرؤوس الصغيرة تتراقص مع عقارب الساعة الخفية ... خمسة ... اربعة ... ثلاثة ... اثنان ... واحد ... هي ي ي ي !
جحافل الجوعى و الحفاة والاحذية المهترئة , تتقافز على سور المدرسة المرتفع دون تردد او حساب ... لم ينتبه اي منهم لتلك السيارة البيضاء التى ابتلعها الزحام المدرسي !
تأمل " الضيف " مرآة السيارة الامامية ... صفف شعيرات رأسه القليلة وعدل رباطة عنقه وهبط ببطء متعمد ...
فهم الناظر العجوز ما يرمي اليه من وراء هذا البطء المتعمد , فظل مستمرا امام غرفته ولم يندفع نحوه كما يفعل الآخرون !
المشهد اليومي المتكرر يستثيره رغم حياته الزاخرة بالتجارب الغنية منذ هجرته من " عسقلان " الى ان صار جزءا من منظومة ادارية تتسم ببيروقراطية قاتلة !
يمتلك من الثقافة و قوة الشخصية و الحنكة ما يمكنه من ضبط حالات الفوضى التي تسود خلال الاستراحة , لكنه لم يفعل ...
كان يتمنى في قرارة نفسه لو يتمكن من هدم اسوار المدرسة نهائيا !
لكنه لا يستطيع بل لا يمتلك صلاحية تشظيب شجرة عجوز باتت اغصانها تهدد سلامة الاطفال ... فهذا يحتاج الى سلسلة طويلة من القرارات الادارية صعودا و هبوطا !
يتامل المشهد بصمت مؤمنا بتفسيره الخاص ... لا يحاول ان يقنع احدا به ... و المعلمون مرتاحون لهذا تماما ... قليل منهم فهم ما يرمي اليه من وراء موقفه هذا ... المهم هو ان يتحلقوا حول ابريق الشاي الكبير في هذا البرد القارس ... يحتسون الشاي ويدخنون سجائرهم ويثرثرون حول قضايا تافهة ... ليس اسهل على الانسان من الثرثرة لساعات طويلة في امور سخيفة !
تقدم " الضيف " حتى صار امامه تماما ... لم يتقدم خطوة واحدة ... بادر الاول بمصافحته ببرود ...
_ تفضل ...
دخل " الضيف " الى غرفة المكتب , فيما ظل الناظر العجوز في مكانه لبرهة لمتابعة مشهده المحبب للاطفال المتدافعين , ثم تبعه الى الداخل ...
" ماذا يكتب ؟! لابد من ملاحظات ليدونها في كراسه الكبير ... تفهاء ! يتلذذون بمغازلة الشياطين التي تسكن التفاصيل الصغيرة !!! "
حديث روتيني خال من اي حياة ... حركة مضطربة تجري بين المعلمين ... اكثرهم ارتباكا كان ذلك المعلم المستهدف من هذه الزيارة ... بطاقات تعليمية اعدت سريعا ... لوحات و صور مغبرة جلبت من المخزن على وجه السرعة ايضا ... ملاحظات رصاصية سريعة دونت في " كراس الموت " الذي سيدققه " الضيف " حتما !
انقضت العشرون دقيقة و بدأ الاطفال يعودون ... حركتهم ابطأ ووجوههم تميل الى الحمرة ...
_ فوضى !!!
تدحرجت الكلمة من بين الشفاه الملتوية امتعاضا لتحتل مساحة الصمت بينهما ... يشتعل الصمت ... فليس في الكون من يهزم العجوز ذو الرؤية العميقة و الافق الرحب ... تمسك يده بذراع " الضيف " الذي صار وجوده ثقيلا الى حد لا يحتمل ... سحبه نحو البوابة التي تفتح عادة مع نهاية الاستراحة لتسهل على الاطفال العودة الي مدرستهم ...
_ تأملهم جيدا ... صراحة اللهجة اربكت " الضيف " ...
عاد الاطفال يحملون اسلحة الجوع والبرد ... يحاولون قدر الامكان الابتعاد عن عون معلميهم ... بعضهم كان لا يعيرهم اي اهتمام ... يتمنطق بحقه المشروع ويتعمد السير امامهم !
قطع الخبز اليابس لا تعني شيئا للضيف ... لا تفضي على ذهنه الخامل تفسيرا او معنى لاي شيء ...
تتسارع القضمات و تكبر في محاولة للنتهاء بحسم معركة الجوع و البرد قبل دخول الحصة ...
نادى الناظر العجوز احد الاطفال ... ارتبك واراد ان يلقي بقطعة الخبز على الارض ...
طمأنه العجوز بابتسامة معهودة تمنح الاطفال شجاعة غير معهودة ...
_ لا تخف ... اقترب ... ماذا لديك ؟؟؟
تناولها امام عيني " الضيف " و فتحها برفق ...
لوى الاخير شفتيه امتعاضا , وربما تقززا !
لم يعتد مشهد الرغيف الاسود المحشو بالفلفل الاحمر المخروط , فاكهة المطابخ في بيوت الاجئين ... ولم يتردد عن البصق على الارض حينما رأى نصف رغيف آخر محشوا بحبة كوسا محسوة بارز اسود !
صفق الناظر العجوز بيديه كي يسارع الاطفال الى دخول فصولهم ... تقدم بهدوء نحو سيارة " الضيف " ووقف الى جوارها !
فوجيء الاخير بالموقف ... تحسس المفاتيح واتجه مسرعا كمن يلاحقه الف شيطان ... رمق العجوز بنظرة ثأرية ثم انطلق بسيارته لا يلوي عل ىشيء ...
استدار العجوز نحو غرفته ... وهناك فوجيء بالكراس الكبير ملقى على المكتب ... كان " الضيف " قد نسيه بسبب ارتباكه ... " حالة الفوضى التي تسود المدرسة ... مبادرات الناظر و الهيئة التدريسية , تتصف بالسلبية المفرطة ... هناك مخاطر تتهدد سلامة الاطفال ! "
قرأها بسرعة ثم اغلق الكراس و القى به على احد الرفوف بلا مبالاة و عاد ليتامل مشهد الاطفال الذين انتصروا على جوعهم و عادوا الى مقاعدهم ليتابعوا معركتهم !

No comments: